فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَيَسْتَنبِئُونَكَ} أي: يستخبرونك: {أَحَقٌّ هُوَ} أي: الوعد بعذاب الخلد، أو ادعاء النبوة أو القرآن: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين العذاب، فهو لاحق بكم لا محال، من (أعجزه) الشيء إذا فاته، يصح كونه (أعجزه) بمعنى وجده عاجزًا. أي: ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزًا عن إدراككم، وإيقاعه بكم.
لطائف:
الأولى:
دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه، مما يصدعهم به.
الثانية:
إنما أمر بالقسم لاستمالتهم، وللجري على ما هو المألوف في المحاورة، من تحقيق المدعي، فإن من أقسم على خير، فقد كساه حلة الجدّ، وخلع عنه لباس الهزل: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13- 14].
الثالثة:
لما كانت الناس طبقات، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقي، ومنهم من لا ينتفع به، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية، نحو القسم، كالأعرابي الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن رسالته وبعثه، وأنشده بالذي بعثه، ثم اقتنع بقوله صلوات الله عليه: «اللهم نعم» فقال: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة،- رواه البخاري في أوائل كتاب العلم-.
الرابعة:
قال ابن كثير: هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3]، وفي التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7]- انتهى-.
وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في زاد المعاد قال: وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعًا، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، ثم ذكر هذه الآيات، ثم قال: وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه- فتحاكم إليه يومًا هو وخصم له، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدًا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم. انتهى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} هذا حكاية فن من أفانين تكذيبهم، فمرة يتظاهرون باستبطاء الوعد استخفافًا به، ومرة يُقبلون على الرسول في صورة المستفهم الطالب فيسألونه: أهذا العذاب الخالد، أي عذاب الآخرة، حق.
فالجملة معطوفة على جملة: {ويقولون متى هذا الوعد} [يونس: 48]، وضمير الجمع عائد إليهم فهم المستنبئون لا غيرهم، وضمير (هو) عائد إلى: {عذاب الخلد} [يونس: 52].
والحق: الثابت الواقع، فهو بمعنى حاقّ، أي ثابت، أي أن وقوعه ثابت، فأسند الثبوت لذات العذاب بتقدير مضاف يدل عليه السياق إذ لا توصف الذات بثبوت.
وجملة: {أحق هو} استفهامية معلقة فعل: {يستنبئونك} عن العمل في المفعول الثاني، والجملة بيان لجملة: {يستنبئونك} لأن مضمونها هو الاستثناء.
والضمير يجوز كونه مبتدأ، و: {أحقّ} خبر مقدم.
واستعملوا الاستفهام تَبالُها، ولذلك اشتمل الجواب المأمور به على مراعاة الحالتين فاعتبر أولًا ظاهر حال سؤالهم فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم بحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيهًا على أن الأولى بهم سؤال الاسترشاد تغليطًا لهم واغتنامًا لفرصة الإرشاد بناء على ظاهر حال سؤالهم، ولذلك أكد الجواب بالتوكيد اللفظي إذْ جمع بين حرف: {إي} وهو حرف جواب يحقق به المسؤول عنه، وبين الجملة الدالة على ما دل عليه حرف الجواب، وبالقسم، وإنّ، ولام الابتداء، وكلها مؤكدات.
والاعتبار الثاني اعتبار قصدهم من استفهامهم فأجيبوا بقوله: {وما أنتم بمعجزين}.
فجملة: {وما أنتم بمعجزين} معطوفة على جملة جواب القسم فمضمونها من المقْسم عليه.
ولما كان المقسم عليه جوابًا عن استفهامهم كان مضمون: {ما أنتم بمعجزين} جوابًا عن الاستفهام أيضًا باعتبار ما أضمروه من التكذيب، أي هو واقع وأنتم مصابون به غير مفلتين منه.
وليس فعل: {يستنبئونك} مستعملًا في الظاهر بمعنى الفعل كما استعمل قوله: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة} [التوبة: 64]، كما تقدم في براءة لأن حقيقة الاستنباء واقعة هنا إذ قد صرحوا بصورة الاستفهام.
و: {إي} بكسر الهمزة: حرف جواب لتحْقيق ما تضمنه سؤال سائل، فهو مرادف (نَعم)، ولكن من خصائص هذا الحرف أنه لا يقع إلا وبعده القسم.
والمعجزون: الغالبون، أي وما أنتم بغالبين الذي طلبكم، أي بمفلتين.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين} في سورة [الأنعام: 134]. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} وهم قد قالوا من قبل: {متى هذا الوعد} [يونس: 48].
وهم هنا قد عادوا للتساؤل: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} أي: يطلبون منك النبأ. والنبأ هو الخبر المتعلق بشيء عظيم، وهم يطلبون الخبر منك يا رسول الله ويتساءلون: أهو حق؟
وكلمة حق هنا لها معطيات كثيرة؛ لأن: {هُوَ} يمكن أن تعود على أصل الدين قرآنًا؛ ونبوَّة، وتشريعًا، وهي كلمة تحمل التصديق بأن القرآن حق، والتشريع حق، والنبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم حق، والقيامة والبعث حق، والكلام عن العذاب في الدنيا بخذلانهم ونصرة المؤمنين عليهم حق.
إذن: فقولهم: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] لها أكثر من مرجع، كأنهم سألوا: هل القرآن الذي جئت به حق؟
وهل النبوة التي تدَّعيها حق؟
وهل الشرائع التي تقول: إن الله أنزلها كمنهج بحكم حركة الإنسان حق؟
وهل القيامة والبعث حق؟
وهل العذاب في الدنيا حق؟
إنها كلمة شاملة يمكن أن تؤول إلى أكثر من معنى.
ويأتي الجواب من الله تعالى: {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
وأنت حين يستفهم منك أحد قائلًا: هل زيد موجود؟ فأنت تقول: نعم موجود. ولا تقول له: والله إن زيدًا موجود؛ لأنك لن تؤكد الكلام لمن يسألك؛ لأنه لا ينكر وجود زيد.
إذن: فأنت لن تؤكد إجابةً ما إلا إذا كان هناك في السؤال شبهة إنكار.
إذن: فأنت تستدل من قول الحق سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] على أن سؤالهم يحمل معاني الإنكار والاستهزاء؛ ولذلك جاء الجواب بأي وهو حرف جواب يعني: نعم، وتأتي إي دائمًا مع القسم.
ولكل حرف من حروف الجواب مقام، فهناك بلى وهي تأتي في جواب سؤال منفي، في مثل قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172].
وقول الحق سبحانه هنا: {إِي وربي} [يونس: 53].
تعني: نعم وأقسم بربي إنه لحق. وأنت لا تُقسم على شيء إلا إذا كان السائل عنده شبهة إنكار، وتأتي بإن لمزيد من هذا التأكيد.
ومثال ذلك في قوله سبحانه: {واضرب لَهُمْ مَّثَلًا أَصْحَابَ القرية إِذْ جَاءَهَا المرسلون إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} [يس: 13،14].
وماذا كان رد من بُعث اليهم الثلاثة؟
{قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 15].
هكذا كان إنكار المكذبين للرسل الثلاثة شديدًا. فقال لهم الرسل: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16].
فكان قولهم هذا مناسبًا لإنكار الكافرين الشديد.
إذن: فالتأكيد في أسلوب المسئول إنما يأتي على مقدار الإنكار، فإن لم يكن هناك إنكار؛ فلا يحتاج الأمر إلى تأكيد.
أما إذا صادف الكلام إنكارًا قليلًا، فالتأكيد يأتي مرة واحدة.
وإن صادف الكلام لجاجة في الإنكار جاء التأكيد مرتين.
أما إذا ما صادف الكلام تبجُّحًا في الإنكار فالتأكيد يأتي ثلاث مرات.
وقد علَّم الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم هنا أن يرد على استنبائهم بأن يقول لهم: {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53].
وهنا يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرب؛ لأن الرب هو من كلَّفه، ثم يؤكد: {إِنَّهُ لَحَقٌّ} لأن سؤالهم تضمَّن الإنكار والاستهزاء.
وما دام قد قال: {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} فهم إن لم يؤمنوا فسوف يلقون العذاب؛ لأنه ليس هناك مَنْجًى من الله تعالى، ولن تُعْجِزوا الله هربًا، ولن تعجزوه شفاعة من أحد، ولن تعجزوه بيعًا، ولن تعجزوه خُلَّة تتقدم لتشفع لكم.
ثم يأتي قوله سبحانه في نهاية الآية: {وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53].
وقد أراد الحق سبحانه أن يفسر لمحة من الإعجاز، ذلك أن الله سبحانه وتعالى من الممكن أن يقبل شفاعة الشافعين، ومن الممكن أن يقبل الفداء. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ}
المعنى: قال يا أيها الكفرة المستعجلون عذاب الله عز وجل: {أرأيتم إن أتاكم عذابه} ليلًا وقت المبيت، يقال: بيت القوم القوم إذا طرقوهم ليلًا بحرب أو نحوها: {أو نهارًا} لكم منه منعة أو به طاقة؟ فماذا تستعجلون منه، وأنتم لا قبل لكم به؟ وما ابتداء وذا خبره، ويصح أن تكون: {ماذا} بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء وخبره الجملة التي بعده، وضعف هذا أبو علي وقال: إنما يجوز ذلك على تقدير إضمار في: {يستعجل} وحذفه كما قال [أبو النجم]: [الرجز]
كله لم أصنع

وزيدت ضربت قال: ويصح أن تكون: {ماذا} في حال نصب ل: {يستعجل}، والضمير في: {منه} يحتمل أن يعود على الله عز وجل، ويحتمل أن يعود على {العذاب} وقوله: {أثم إذا ما وقع} الآية، عطف بقوله: {ثم} جملة القول على ما تقدم ثم أدخل على الجميع ألف التقرير، ومعنى الآية: إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به حينئذ، وذلك غير نافعكم بل جوابكم الآن وقد كنتم تستعجلونه مكذبين به، وقرأ طلحة بن مصرف {أثَم} بفتح الثاء، وقال الطبري في قوله: {ثُم} بضم الثاء، معناه هنالك وقال: ليست ثُم هذه التي تأتي بمعنى العطف.
قال القاضي أبو محمد: والمعنة صحيح على أنها ثم المعروفة ولكن إطباقه على لفظ التنزيل هو كما قلنا، وما ادعاه الطبري غير معروف و: {الآن} أصله عند بعض النحاة آن فعل ماض دخلت عليه الألف واللام على حدها في قوله: الحمار اليجدع ولم يتعرف بذلك كل التعريف ولكنها لفظة مضمنة معنى حرف التعريف ولذلك بنيت على الفتح لتضمنها معنى الحرف ولوقوعها موقع المبهم لأن معناها هذا الوقت، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وعاصم والجمهور: {الآن} بالمد والاستفهام على حد التوبيخ، وكذلك: {الآن وقد عصيت} [يونس: 91] وقرأها باستفهام بغير مد طلحة والأعرج. وقوله تعالى: {ثم قيل للذين ظلموا} الآية، هو الوعيد الأعظم بالخلود لأهل الظلم الأخص الذي هو ظلم الكفر لا ظلم المعصية، وقوله: {هل تجزون} توقيف وتوبيخ، ونصت هذه الآية على أن الجزاء في الآخرة، هو على تكسب العبد، وقوله: {ويسألونك} معناه يستخبرونك، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين: أحدهما الكاف، والآخر في الابتداء والخبر، وقيل هي بمعنى يستعلمونك، فهي على هذا تحتاج إلى مفعولين ثلاثة: أحدها الكاف، والابتداء والخبر يسد مسد المفعولين، و: {أحق هو} قيل الإشارة إلى الشرع والقرآن، وقيل: إلى الوعيد وهو الأظهر، وقرأ الأعمش: {الحق هو} بمدة وبلام التعريف، وقوله: {إي}، هي لفظة تتقدم القسم وهي بمعنى نعم ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء، تقول: {إي وربي} وإي ربي: {معجزين} معناه مفلتين، وهذا الفعل أصله تعدية عجز لكن كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب: أعجز فلان، إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه. اهـ.